اعصار عضو برونزي
تاريخ التسجيل : 09/08/2011 المشاركات : 545 العمر : 41 تقيمي : 2 الجنس : الدولة : المهنه : الهواية : المزاج :
| موضوع: الجزء الثاني من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين الأربعاء 10 أغسطس 2011 - 11:17 | |
| ولهذا لا يجوز العطف هنا بـ{ الواو }. والدليل على ذلك أنه لم يعطف بـ{ الواو } في مثل هذا التركيب، في موضع من المواضع، وكل ما ورد في القرآن، ورد معطوفًا بـ﴿أَوْ ﴾؛ نحو قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.. ﴾(النور:39-40).
تقديره:أعمالهم كسراب.. أو أعمالهم كظلمات.
وقوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ إلى قوله:﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.. ﴾(البقرة:258-259).
تقديره: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم.. أو ترَ كالذي مرَّ على قرية.
وكذلك قوله تعالى:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾، تقديره: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا.. أو مثلهم كصيِّب من السماء.. فدل على أن للمنافقين حالان: حال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وحال مع القرآن الكريم. وبهذا يعلم أن الغرض من هذا التمثيل هو تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْفي التمثيل الأول.
وعليه يكون التقسيم في التمثيلين لتنوع الأحوال، لا لتنوع الأشخاص. ولهذا عطف الثاني على الأول بـ﴿أَوْ ﴾الفارقة، التي تؤذن بتساوي المثلين في استقلال كل منهما بوجه الشبه، وبصحة التمثيل بكل واحد منهما، وبهما معًا، لا بتساويهما في التمثيل، بخلاف الواو الجامعة.. يدلك على ذلك أنه لو قيل: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا.. وكصيِّب.. لربما أوهم صحة التشبيه بمجموعهما، لا بكل واحد منهما، وحينئذ يعتقد أنهما مثل واحد، لا مثلان.
وإذا كان مثل المنافقين في التمثيل الأول قد شبِّه بمثل الذي استوقد نارًا، فإنه في هذا التمثيل قد شُبِّه بصيِّبٍ نزل من السماء ليلاً على قوم في مفازة، فيه ظلمات كثيفة متراكمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الموت والهلاك،فلقوْا من الهول والشدَّة ما جعلهم في حيرة من أمرهم، وقلق واضطراب، وذعر وخوف، وتيه وضلال. لا يدرون ماذا يفعلون في هذه الصحراء المكشوفة، التي لا ملجأ لهم فيها، ولا ملاذ من قصف الرعد، الذي يهدد أسماعهم, ونور البرق، الذي يكاد يخطف أبصارهم، وخطر الصواعق، الذي يهددهم في كل حين بتحويلهم إلى رماد؟!
كذلك كانت آيات القرآن الكريم حين تتنزَّل، تنخلع لها قلوب المنافقين، لمَا يتوقعون فيها من صواعق، تُدَمْدِم عليهم، وتفضح مكنون صدورهم.. فإذا تلقّى الرسول الكريم وحيًا من ربه جلَّ وعلا وأعلنه في أصحابه، اصطكَّت به أسماع المنافقين، وانخلعت له أفئدتهم هلعًا وفزعًا. فهم مع إظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر كانوا في قلق شديد من أحكام القرآن وتبعاته ووظائفه؛ كما كانوا على طمع من التعلُّق بمنافعه الدنيوية وخيراته. وهم لا يزالون كذلك ينكمشون، أو يتوارون من تبعاته ووظائفه وزواجره، إذا أقبلت تواجههم، ويسرعون للاستفادة من ثماره، كلما لاحت لهم.
فنـهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام كان يشكل صواعق وحممًا، تنزل على رءوسهم، وانـتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم، وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم قد صعقتهم, وفـي كـل لـحـظـة كانوا يـحْذرون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة:﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾(التوبة:64).
وهم أيضًا في خـوف دائم وفزع شديد من أن يأذن اللّه بمحاربتهم, وأن يحث القوة الإسلامية المتصاعدة على مـجـابهتهم؛ لأنهم كانوا يواجَهون بمثل هذه التهديدات القرآنية؛ كقوله تعالى:
﴿ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً ﴾(الأحزاب:60).
﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾(المنافقون:4).
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾(التوبة:57).
هذه الآيات وأمثالها كانت تنزل كالرعد والبرق والصواعق على المنافقين, وتتركهم في خوف وذعر وحيرة وقلق، وتضعهم أمام خطر الإبادة، أو الإخراج من المدينة في كل حين. ولهذا كانوا- كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في رواية عنه- إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله تعالى لهم هذا المثل.
والتمثيل- هنا- كما في التمثيل الأول مَسُوقٌ في تفصيل صوره وأجزائه مساق وصف قصصي- كما ترى- وهو من خصائص أمثلة القرآن، ثم هو مبني على تشبيه مجموع حالة بمجموع حالة أخرى دون النظر إلى مقارنة، أو تشبيه أجزاء الحالين ببعضهما.
وجمهور المفسرين على القول الأول، وعليه يكون الصَّيِّب مثلاً للقرآن، وما في الصَّيِّب من الظلمات مثلاً لمَا في القرآن من ذكر الكفر والنفاق، وما فيه من الرعد مثلاً لما في القرآن من زجر ووعيد، وما فيه من البرق مثلاً لما في القرآن من النور والحجج الباهرة، وما فيه من الصواعق مثلاً لما في القرآن من تكاليف الشرع، التي يكرهونها؛ كالجهاد، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك. أما جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت فهو مثل لتخوفهم وروعهم من فضح نفاقهم، والكشف عن حقيقتهم.
ويجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾:{ أو مَثَلُهُم كَمَثَلِ صَيِّب }، فيقدرون لفظ ﴿مَثل ﴾عقب كاف التشبيه. ومنهم من جعل تقديره أمرًا مسلمًا، يقتضيه العطف على السابق. وذهب بعضهم إلى أن تقديره أوْفى في تأدية المعنى، وأشدُّه ملاءمة مع المعطوف عليه..وعليه يكون أصل الكلام:
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أو مثلهم كمثل صيِّب من السماء ﴾
ثم حذِف ﴿ مَثَلُ﴾المقدرة عقب كاف التشبيه- كما قال الإمام الطبري- طلبَ الإيجاز والاختصار، اكتفاءً بدلالة ما مضى من الكلام، من إعادة ذكره.
ولكن هذه التأويل يُخلُّ بمعنى الكلام ونظمه، ويذهب بما فيه من روعة الإعجاز. وفرق كبير بين أن يكون تقدير﴿مَثلٍ ﴾عقِب كاف التشبيه أوْفى بتأدية المعنى، وبين أن يكون مخلاًّ بالمعنى والنظم معًا. وكيف يحذف لفظ من القرآن يكون ذكره أوفى بتأدية المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلمَ لمْ يذكر هذا اللفظ- هنا- كما ذكر في المثل الأول؟ وهل يصلح ما قاله الإمام الطبري أن يكون جوابًا عن ذلك؟
أما ما قاله الإمام الطبري فيصلح أن يكون جوابًا لحذف﴿مَثلُهُمْ ﴾عقب ﴿أَوْ ﴾العاطفة، وأما أن يكون لفظ ﴿مَثَلٍ ﴾ مرادًا عقب الكاف، ثم حذف طَلبَ الإيجاز والاختصار، اكتفاء بذكره في المثل الأول، فليس كذلك؛ لأنه لا يجوز ذكره- هنا- لا لفظًا، ولا تقديرًا.
وعلى فرض أنه مراد في اللفظ، وأن أصل الكلام:﴿ أو مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾، فأيُّ اختصار مزعوم هذا الذي يطلب بحذفه، وأيُّ إيجاز هذا ؟ وسيتضح لك خطأ هذا الجواب، إذا علمت الفرق في المعنى بين قولنا:{ مَثلُ هذا كمَثلِ هذا }، وقولنا:{ مَثلُ هذا كهذا }.
وبيان ذلك أن القول الأول هو تمثيل بين وجودين علميين ذهنيين؛ كما سبق أن بيِّنا ذلك في المثل الأول. أما الثاني فهو تمثيل بين وجود علمي ذهني، ووجود علمي خارجي. ومن الأول قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ.. ﴾(الجمعة:5). ومن الثاني قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ.. ﴾(يونس:24).
وعلى القول الأول يحمل قوله تعالى:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا..﴾، وعلى القول الثاني يحمل قوله تعالى:﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ.. ﴾؛ لأن الغرض من المثل الأول هو تشبيه مثل المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل جماعة مستوقد النار. وكلاهما معنى موجود في العلم والذهن. وللدلالة على هذا المعنى جيء بلفظ المثل في طرف كل من المشبه والمشبه به. أما الغرض من المثل الثاني فهو تشبيه مثل المنافقين مع القرآن الكريم بجماعة نزلوا فلاة ليلاً، فأصابهم مطر شديد. والأول موجود في العلم والذهن، والثاني موجود خارج الذهن. وللدلالة على هذا المعنى، جيء بلفظ المثل في طرف المشبه، دون المشبه به.. فتأمل!
ويدل على هذا الذي ذكرناه في المثل الثاني ما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- من قوله:”كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر، الذي ذكر الله، وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدًا، ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين“.
والصَيِّب هو المطر الشديد، الذي يَصُوب من السماء. أي: ينزل منها بسرعة، وهو مثل للقرآن الكريم؛ كما أن الذي استوقد نارًا-في المثل الأول- مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالصيِّب السحاب. وهذا أوْلى من حمله على المطر، يدلك على ذلك: أن المطر، لا يكون محلاً للظلمات والرعد والبرق؛ وإنما يكون محلها السحاب؛ ولهذا قال تعالى:﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾، ولم يقل:{ مَعَهُ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }. وأما من فسر﴿فِيهِ ﴾ بمعنى:{ مَعَهُ }فليس بشيء.
وفي الصيِّب مبالغات من جهة تركيبه، وبنائه، وتنكيره: أما من جهة تركيبه فالمراد به مادته الأولى، والثانية. أي: حروفه، واشتقاقه. أما حروفه فإن الصاد من المستعلية، والياء مشدَّدَة، والباء من الشديدة. وأما اشتقاقه فمن الصَّوْب، وهو نزولٌ له وقعٌ وتأثير. وأما من جهة بنائه. أي: صورته، فإن صيغة: فَيْعِل من الصيغ الدالة على الثبوت. وأما من جهة تنكيره فلأنه أريد به نوعٌ من المطر شديد هائل؛ كما نكِّرت النار في التمثيل الأول. ولهذا كله ناسب تشبيه القرآن الكريم به.
وقوله تعالى:﴿ مِنَ السَّمَاءِ ﴾متعلق بـ﴿كَصَيِّبٍ ﴾، ومن لابتداء الغاية. والمراد بالسماء هذه المظلة، التي تظلنا، وهي- في الأصل- كل ما علاك من سقف ونحوه. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. أي: ممنوع بقدرة الله عز وجل من السيلان. والمراد بها- هنا- الأفق،وتعريفها للاستغراق، فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها، فيشعر بقوة المصيبة، مع ما فيه من تمهيد للظلمات. ولهذا القصد جاء ذكرها بعد الصيِّب؛ إذ كان يمكن أن يقال: كصيِّب فيه ظلمات ورعد وبرق. وقيل: يحتمل أن يكون ذكرها- أيضا- للتهويل، والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم؛ وذلك أبلغ في الإيذاء؛ كما يشير إليه قوله تعالى:﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾(الحج:19).
وقوله تعالى:﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾المراد بالظلمات: ظلمة السحمة، وظلمة التطبيق مع ظلمة الليل، على أن المراد بالصيِّب: السحاب المحمَّل بالمطر. وجيء بلفظَيْ الرعد والبرق مفردين، خلافًا للظلمات قبلهما، وللصواعق بعدهما. والسِّرُّ في ذلك أنهما- في الأصل- مصدران. والأصل في المصادر أن لا تجمع، وإن كان جمعها جائزًا في العربية، على أنه لو جُمِعا، دلَّ جمعهما ظاهرًا على تعدد الأنواع، وكلٌّ منهما نوع واحد.
وفي قوله تعالى:﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ تنبيه على أن ما صنعوه، من سدِّ الآذان بالأصابع، لا يغني عنهم شيئًا، وقد أحاط بهم الهلاك. وفيه أيضًا مبالغة في فرط دهشتهم، وكمال حيرتهم، من وجوه: أحدها: نسبة الجعل إلى الأصابع كلها، وهو منسوب إلى بعضها؛ وهو الأنامل. وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع. والمعهود إدخال السبابة؛ فكأنهم، من فرط دهشتهم، يدخلون أيَّ أصبع كان، ولا يسلكون المسلك المعهود. ثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال؛ فإن جَعْلَ شيءٍ في شيء أدلُّ على إحاطة الثاني بالأول، من إدخاله فيه.
والصَّوَاعِقِ جمع: صاعقة. والظاهر أنها- في الأصل- صفة من الصَّعْق؛ وهو الصُّراخ، ثم صارت اسمًا لكل هائل مهلك مسموع، أو مشاهد. وتاؤها للمبالغة كـراوية. أو مصدرًا كالكاذبة والعافية. يقال: صعقته الصاعقة: إذا أهلكته بالإحراق، أو شدَّة الصوت.وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى:﴿ وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا ﴾(الأعراف:143).
وقرأ الحسن:﴿ مِنَ الصَّوَاقِعِ ﴾؛ وليس بقلب للصواعق، لأنَّ كلا البنائين سواء في التصرف. وإذا استويا، كان كل واحد بناءً على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته.
وقد ثبت أن الأرض وما عليها مشحونة كهربيًا. وعندما تكون هناك سحب مشحونة بشحن كهربائية متناقضة، فإنه قد تنشأ شرارة كهربائية. والصوت الذي يُنشِئ هذه الشرارة يُسمَّى: رعدًا. وتتوقف شدة هذا الصوت على حجم السحب وقربها من الأرض. أما الضوء الذي ينشأ عن حدوث الشرارة فيسمى: برقـًا. وقد تخترق هذه الشرارة الجو بسرعة هائلة، فتنزل إلى الأرض، فتحرق الأشجار، وغيرها، وتسمى حينئذ: صاعقة. قال تعالى:﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم ﴾(النساء:153).
ويتسبب البرق، أو الصواعق البرقية في الكثير من الأضرار للمباني والتجهيزات الكهربائية. ولذلك نجد أن المباني عادة ما تُجهَّز بمانعات الصواعق، وهي وسائل لتفريغ الشحنة الكهربائية الضخمة الناتجة عن البرق.
وفي قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾إشارة إلى دورة من دورات المنافقين؛ حيث انتهى بهم تردُّدهم، بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ. ولم يُجْدِ عنهم حَذرُهم، ولا تدبيرهم شيئًا؛ لأن الله تعالى محيطٌ بهم. أي: لا يفوتونه أبدًا؛ فهم في قبضته، وتحت قهره ومشيئته. والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع، لا يغنى عنهم شيئًا؛ فإن القدر لا يدفعه الحذر، والحيل لا ترد بأس الله عز وجل.
وقال تعالى:﴿ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل:{ مُحِيطٌ بِهِمْ }. أي: بالمنافقين؛ ليدخل في عمومه المشركون، والمنافقون، وغيرهم من الذين كفروا من أهل الكتاب. وللدلالة على ثبوت هذا المعنى ولزومه عبَّر عنه تعالى بالجملة الاسمية، دون الفعلية، لما فيها من دلالة على معنى الثبوت والدوام.
فإحاطته سبحانه بهم ثابتة، وعذابه لهم واقع لا محالة، ولا مَدْفَع لهم منه،في الدنيا، والآخرة؛ كما قال سبحانه وتعالى:﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ *فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ *بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ *وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾(البروج:17-20).
وقال تعالى:﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾، فأدخل الفعل ﴿ يَكَادُ ﴾على جملة:﴿ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾؛ ليدل بذلك على قرب وقوع الخبر، وأنه لم يقع. وأسند خطف الأبصار إلى البرق لِما في الخطف من معنى الأخذ، أو الاختلاس بسرعة، إضافة إلى معنىالمباغتة والمفاجأة؛ كما يشير إليه قوله تعالى في صفة الشياطين:﴿ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات:10)، فعبَّر عن استراق الشياطين للسمع بقوله:﴿ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ﴾. ومنه سُمِّيَ الطيرُ خطَّافًا لسرعته؛ ولهذا أسند فعل الخطف إلى الطير في قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق ﴾(الحج:31).
وعليه يكون معنى قوله تعالى﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾: يأخذها بسرعة؛ وكأنه يختلسها اختلاسًا. فلو قيل: يأخذ أبصارهم، لمَا أفاد هذا المعنى، الذي يفيده الخطف، الذي يتجدد حدوثه باستمرار؛ كما تدل عليه صيغة الفعل الحاضر.
ويتضح لك ذلك إذا علمت أن سرعة البرق تبلغ ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، وهي سرعة الضوء. وإذا حدث هذا البرق على مسافة عدة كيلو مترات في الغيوم، فإن الزمن اللازم لوصول هذا البرق إلى الشخص، الذي سيصيبه هو أقل من جزء من مئة ألف جزء من الثانية. أي أقل من(1/100000) من الثانية. وهذه السرعة الهائلة لا يناسبها من الألفاظ للتعبير عنها سوى لفظالخطف﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾.
ويعبَّر عن خطف البصر بالعمى الناتج عن بريق الضوء الشديد. وهذا النوع من العمى ينتج من مصادر ضوء ساطع ومفاجئ مثل: البرق، والليزر، وانعكاس الضوء من المباني العالية الزجاجية.
وإذا علمنا أن البرق يحتوي على الضوء المرئي بالإضافة إلى الأشعة الخطيرة بأنواع متعددة، فإننا ربما ندرك السر في قوله تعالى:﴿ يَكَادُ ﴾. أي يقارب. فالكمية الضخمة من الإشعاعات، التي يطلقها البرق خلال زمن قصير جدًا ذات تأثير كبير على العصب البصري، والشبكية، والقرنية، والجسم الزجاجي للعين، وهي عناصر تتعلق بعملية الإبصار؛ ولذلك قال الله تعالى:﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾، ولم يقل سبحانه:﴿ يَخْطَفُ عُيُونَهُمْ ﴾!
وقوله تعالى:﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ﴾هو عبارة عن جملتين شرطيتين: الثانية منهما معطوفة على الأولى. وجيء في الثانية بـ﴿ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ﴾في مقابلة ﴿أَضَاءَ لَهُمْ ﴾، وبـ﴿قَامُوا ﴾في مقابلة ﴿مَشَوْا ﴾، وجيء بـ﴿كُلَّمَا ﴾ في تعليق المشي بالإضاءة، وبـ﴿إِذَا ﴾في تعليق القيام بالإظلام؛ لأن الأولى تفيد التكرار، والثانية تفيد التحَقق. وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب، وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون، وما يذرون.
وإضاءةُ البرق: خفقانه ولمعانه. وإظلامه: اختفاؤه. والمَشْيُ: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعي، وإذا ازداد فهو عدو. والقيام: الوقوف والثبات، ويراد به: الجمود؛ ومنه قولهم: قام الماء. أي: جَمَدَ. والمعنى: كلَّما خفق البرق لهم خفقة، أو لمع لمعة، مشوا فيه، أو مشوا في ضوئه. وإذا خفي عنهم، وقفوا جامدين متحيرين، لا يدرون أين يذهبون. ولجهلهم لا يعلمون أن ذلك من لوازم الصيِّب، الذي به حياةُالأرض والنبات، وحياتُهم هم أنفسهم؛ بل لا يدركون إلا رعدًا وبرقًا وظلمة، ولا شعورَ لهم بما وراء ذلك.
ولقائل أن يقول: كيف قال تعالى:﴿ مَشَوْا فِيهِ ﴾، والمَشْيُ لا يكون في البرق، ولا في ضوئه؛ وإنما يكون في محله، وموضع إشراق ضوئه ؟ والجواب: أنهم- لفرط حيرتهم ودهشتهم، وشدَّة الأمر عليهم وفظاعته- كانوا يخبطون خَبْط عَشْواءَ، ويمشون كلَّ مَمْشى، لا يدرون أين يذهبون؛ وكأنهم يمشون في البرق، أو في ضوئه. وكيف لا يمشون فيه، وهو يخطف أبصارهم باستمرار، فلا يدع لهم فرصة لأن يبصروا أمامهم؟!
وفي ذلك إشارة إلى أن حركتهم، إن لم تكن معدومة، فهي بطيئة جدًا؛ لضعف قواهم، ومزيد خوفهم، رَغْمَ حرصهم الشديد على المشي؛ وكأنهم لا يمشون. ويدل على ذلك أنه في مصحف عبد الله بن مسعود:﴿ مَضَوْا فِيهِ ﴾بدلا من﴿ مَشَوْا فِيهِ ﴾، فعبَّر عن ذلك بالمضيَّ، الذي يدل على انعدام الحركة.
وقال تعالى:﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾، فعلق ذهاب سمعهم وأبصارهم بمشيئته سبحانه، فأفاد ذلك أن الله تعالى، لو شاء، لذهب بأسماعهم وأبصارهم من غير سبب، أو بسبب آخر غير قصيف الرعد، ووميض البرق، فلا يغنيهم ما صنعوه من سدِّ الآذان وغيره، وقد أحاط بهم الهلاك من كل جانب؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك
﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(الروم:6).
وهذا الوعد هو المشار إليه بقول الله تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾(التوبة:68).
ولإفادة هذا المعنى- أعني: تأخير العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب﴿لَوْ ﴾ الشرطية. هذه اللام، التي أجمعوا على القول بجواز سقوطها من الكلام؛ لأنها- عندهم- زيدت للتأكيد، وهم معذورون في ذلك؛ لأن أسرار القرآن الكريم أكثر، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر؛ فلا عجب أن قالوا بجواز سقوطها، ولم يعلموا أنها لو سقطت، لأفاد سقوطها التعجيل بوقوع الجواب، خلافًا للمراد.
أما﴿شَاءَ ﴾فهو فعل منزَّل منزلة اللازم، ولا يجوز أن يُصَرَّح بمفعوله، إلا في الشيء المستغرب. ولا يُكتفَى فيه بدلالة الجواب عليه؛ بل يصرح به، اعتناء بتعيينه، ودفعًا لذهاب الوهم إلى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به واستغرابه.
وبيان ذلك: أنك إذا قلت:{ لو شئت لبكيت دمًا }، فإنه يحتمل تعليق المشيئة ببكاء الدمع، على مجرى العادة، وأن ما ذكرته من بكاء الدم واقع بدله من غير قصد إليه؛ وكأنك قلت: لو شئت أن أبكي دمعًا، لبكيت دمًا.. أقول: هذا المعنى محتمل، وإن كان تقييد البكاء في الجواب بالدم، يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد؛ فإذا ذكر المفعول، زال هذا الاحتمال، وصار الكلام نصًّا فيما قصِد به.
والمشيئة- عند أكثر المتكلمين- كالإرادة سواء. وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته، وإن استعملت عرفًا في موضع الإرادة. وذهب بعضهم إلى أن المشيئة من الله تعالى هي الإيجاد، ومن الناس هي الإصابة. قال: والمشيئة من الله تقتضي وجود الشيء؛ ولذلك قيل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والإرادة منه سبحانه لا تقتضي وجود المراد، لا محالة. ألا ترى أنه سبحانه قال:﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾(البقرة:185)،﴿ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾(آل عمران:108)، ومعلومٌ أنه قد يحصل العسر، والتظالم فيما بين الناس!ولهذا قال تعالى هنا:﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾، ولم يقل:{ وَلَوْ أَرَادَ الله }.
وقوله:﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذهَبَ..﴾قال الفرَّاء:” المعنى- والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره، بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من أذهبت. وقد قرأ بعض القرّاء:﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهبُ بِالأَبْصَارِ﴾،بضمِّ الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم:﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَينَاءَ تُنْبِتُ بالدُّهْنِ ﴾. فترى- والله أعلم- أن الذين ضمُّوا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذْ بالخطام، وخُذِ الخطامَ، وتعلَّقتُ بزيدٍ, وتعلَّقتُ زيدًا. فهو كثير فى الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك لقلَّته “.
وقد سبق أن ذكرنا سر دخول هذه الباء في قوله تعالى:﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾(البقرة:17) في المثل الأول، وبينا الفرق في المعنى بين قولنا: ذهب بالشيء، وأذهب الشيء، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ولقائل أن يقول: لمَ أفرد السمع، وجمع البصر في قوله تعالى:﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾؟ وما السرُّ في تقديم الأول على الثاني ؟
والجواب عن الأول: أن السمع- في اللغة- هو إدراك الأصوات المحيطة بنا بعد سماعها، وآلته الأذن السامعة، وأن البصر اسم يطلق على عملية الإبصار، التي يتم بها إدراك المرئيات الحسيَّة بعد النظر إليها، وآلته العين الباصرة. ومن هنا جاز التعبير بالسمع عن الأذن، التي هي آلة السماع، كما جاز التعبير بالبصر عن العين، التي هي آلة الإبصار. هذا أولا.
وأما ثانيًا:فإن البصر يجمع على: أبصار، وأن السمع، يجمع على: أسماع ؛ ولكنه لم يرد في القرآن الكريم مجموعًا بخلاف البصر؛ إلا في قراءة ابن أبي عبلة:﴿ لَذَهَبَ بِأسَمْاعِهِمْ ﴾، بدلا من:﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾. وكذلك قرأ:﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ ﴾(البقرة:7)، بدلاً من:﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سْمْعِهِمْ ﴾.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائمًا، أنه مصدر- في أصله- والمصادر لا تجمع. فإذا جعِلت أسماءَ، ذَكِّرت، وأفردَت.. وأما المرجَّح فالاختصار، والتفنن بتوحيد السمع، وجمع البصر، مع إشارة لطيفة إلى أن مدركات السمع نوع واحد؛ وهي المسموعات، ومدركات البصر، أنواع مختلفة؛ وهي المرئيات؛ كما كانت مدركات القلب كذلك.. ولهذا أفرد السمع دائمًا، وجمع البصر والقلب غالبًا، في البيان القرآني!
وأما الجواب عن الثاني- وهو سر تقديم السمع على البصر- فقيل: إنما قدم عليه؛ لأنه أهم منه، من حيث إنه يُدرَك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يُدرَك بالبصر؛ إلا من الجــهة المقابلة، وفي النور دون الظلمة. وهذا ما ذكره- أيضًا- أصحاب الشافعي، وحكَوْا- هم وغيرهم- عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل؛ من حيث أن إدراكه أكمل، ونصبوا معهم الخلاف، وذكروا الحجاج من الطرفين.
والتحقيق في هذه المسألة الخلافية: أن إدراك البصر أكمل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ليس المخبر كالمعاين“. ولكن السمع، يحصل به من العلم لنا، أكثر ممَّا يحصل بالبصر. فالبصر أقوى وأكمل، والسمع أعم وأشمل. فهذا له صفة العموم والشمول، وذاك له صفة التمام والكمال، وإذا تقابلت المرتبتان، كان كل واحد منهما مفضلا، ومفضلا عليه. وبذلك يترجَّح أحدهما على الآخر بما اختصَّ به من صفات.
ولهذا قيل: لما كان إدراك القلب والسمع من جميع الجوانب، جُعِل المانع فيهما الختم، الذي يمنع من جميع الجهات، ولما كان إدراك البصر من الجهة المقابلة فقط، خُصَّ المانع فيه بالغشاء، المتوسط بين الرائي، والمرئي؛ كما في قوله تعالى:
﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ (البقرة:7)،
وقوله تعالى:﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾(الجاثية:23)
وقد ذهب بعضهم إلى القول بأن السمع قدِّم في القرآن على البصر؛ لأنه أشرف منه، بدليل أن الأذن، التي هي آلة السمع، أفضل وأرقى عند الله في الخلق من العين، التي هي آلة الإبصار؛ لأن الأذن لا تنام أبدًا، ولا تتوقف عن العمل أبدًا، بخلاف بقية أعضاء الجسم.
ولست أدري بماذا يعللون تقديم ( الأعمى ) على ( الأصم، والبصير ) على السميع في قول الله تعالى:﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾(هود:24).
وقوله تعالى:﴿ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾(السجدة:12).
وقوله تعالى:﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾(الأعراف:179) ؟! | |
|
hattem عضو برونزي
تاريخ التسجيل : 11/08/2011 المشاركات : 460 العمر : 33 تقيمي : 0 الجنس : الدولة : المهنه : الهواية : المزاج :
| موضوع: رد: الجزء الثاني من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين الأحد 14 أغسطس 2011 - 12:04 | |
| يعطيك العافيه عالموضوع الجميل | |
|