«الكَعَب» هو النتوء والبروز، ومن هنا سمي الجزء المرتفع والبارز من القدم كعباً. وورد في اللغة أنّ «الكعبة» : هي البيت المكعب، أي المربع، وقيل المرتفع. وصحّح بعضهم المعنى الأول، أي أنّ الكعبة: هي كل بيت مربع. وبما أنّ الكعبة هي أول بيت وُضِع للناس من أجل العبادة، كما ينص القرآن الكريم، فلا يبعد أن تكون التسمية ربّانية المصدر، ولأنّ الكعبة بُنيت مربعة فقد أصبح الناس يَصِفون كل بيت مربع بأنه كعبة، ثمّ اشتق منه المكعّب ليعني المربع، ثم أُطلِق المكعّب على المجسّم ثلاثي الأبعاد ذي الأوجه المربعة.
وبما أنّ الكعبة هي أول بيت مرتفع وبارز فوق الأرض، فقد كانت كل الألفاظ المشتقة من هذا الاسم تدل على الارتفاع، وبالتالي لا داعي لأن نُرجّح معنى على آخر. ولأنّ الكعبة هي قبلة المسلمين في الصلاة والحج، فقد وجدنا الناس يجعلون لفظة الكعبة مرادفة للفظة القبلة.
جاء في الآية 97 من سورة المائدة: « جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَام... » .
واضح أنّ البيت الحرام كان في البداية لا يزيد عن مساحة الكعبة، والتي تقارب «100 م2» . من هنا نجد أنّ الآية تُصرّح بأنّ الكعبة هي البيت الحرام. أمّا اليوم فإنّ مساحة البيت الحرام ضخمة جداً، ويمكن أن تزاد وتلحق بها مساحات أخرى حتى تصل الحدود التي حددها الرسول، صلى الله عليه وسلم، كمنطقة حرام، لها أحكام خاصة. ويبقى للكعبة مركزيتها، بل إنّ كل ما أحاط بها اكتسب مكانته لصلته وقربه منها.
جاء في الآية 5 من سورة النساء: « وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً » : فقد جعل الله تعالى المال قوام الحياة، فلا تقوم الحياة، ولا تثبت، ولا تستمر، إلا بالمال. وهذا معلوم وبدهي، وليس هو محل جدال أو تشكيك. واللافت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يستخدم مثل هذا التعبير مرّة أخرى إلا في سورة المائدة، في قوله تعالى: « جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَام...» فجَعْلُ المال من مقومات الحياة أمر مفهوم ومجمع عليه بين الناس.
ولكن الأمر الذي قد لا يُفهم بداهة، وليس هو محل إجماع، فهو الإيمان، الذي يولّد في النفوس مفهوم القداسة، ومفهوم الواجب، ومفهوم الحرمات. وقد نزلت الرسالات الربّانية لتقيمه، وتحرسه، وتعززه.
فالحياة البشرية لا تقوم بالمال وحده، ولا مجال لاستمرار الوجود المجتمعي الإنساني بعيداً عن المفاهيم التي يغرسها الدين في النفوس. من هنا يمكن للمستقرئ أن يُلاحظ ذلك؛ فالمجتمعات التي يضعف فيها تأثير الدين، وتزلزل فيها قِيمهُ ومفاهيمه، لا بد أن تظهر فيها عوامل التفكك والانحلال، بل إنّ الإنسان، في مثل هذه المجتمعات، يفتقد هدفية وجوده ومسوّغ استمراره.
ومن هنا نجد، مثلاً، أنّ الفلسفة الوجوديّة في الغرب، والتي ترفع شعار: «لا إله» ، هي أيضاً التي ترفع شعار «العبثيّة» ، بل إنّ من أساسيات مبادئهم: « لا شيء له معنى إلا الموت، وغاية إمكانيات الإنسان الانتحار » . ولا شكّ أنّ للدين دوراً متنامياً في المجتمعات البشرية المختلفة، ولذلك يصعب أن نجد اليوم مجتمعاً يتجرّد من الإيمان، ومن مفهوم القداسة، والواجب، والحرمة، إلا أنه بالإمكان أن نلاحظ التناسب الطردي بين قوة الإيمان وقيمهِ في المجتمع، وقوة التماسك الاجتماعي.
وقد ثبت بالتجربة أنّ توافر المال، والذي هو القوام الأول، غير كافٍ إلى أن يتحقق الإيمان، والذي هو القوام الثاني. ويمكن ملاحظة أثر فقدان القوام الثاني في المدارس المادّيّة، مثل المدرسة الوجودية، وذلك على المستوى الفلسفي، ومثل المدرسة الماركسية، وذلك على المستوى الفلسفي والواقعي. وما تجربة الاتحاد السوفييتي عنّا ببعيد، فهي غنيّة الآن عن البيان.
فالأحكام المتعلقة بالكعبة والحجّ إليها، والأحكام المتعلقة بالأشهر الحُرُم، والأحكام المتعلقة بالهَدي والأضاحي، وغير ذلك من الأحكام ذات العلاقة بمكانة الكعبة، تُشكّل في شِقّها الإيماني وشقّها السلوكي القوام الثاني. وقد يكون من السهل على الناس أن يدركوا أهمّية نظام العقوبات، مثلا، وضرورته لقيام الحياة المجتمعيّة المستقرّة، إلا أنّهم قد يغفلون عن أهمّية وضرورة تشريعاتٍ كالحج وأحكامه؛ فيلتبس على البعض فَهْم كيف يمكن أن تكون «الكعبة قياما للناس» .
ويبدو أننا بحاجة إلى إعادة نظر ومزيد تدبُّر لأحكام وأسرار الركن الخامس من أركان الإسلام.