بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن الناس تختلف أحوالهم ومشاغلهم في رمضان , ولكنني أحببت أن أضع هذا
البرنامج ليوافق الجمهور الأكبر بإذن الله تعالى , وما أردت إلا الخير
لأحبتي , والله من وراء القصد .
الناس في رمضان - في الغالب - على فئات :
الفئة الأولى : أصحاب الوظائف والأعمال .
الفئة الثانية :التجار وأصحاب الأعمال الحرة .
الفئة الثالثة : المنشغلين بأعمال بر والخير من المنتسبين للجمعيات الخيرية
وجمعيات التحفيظ ومكاتب الدعوة ونحوهم
الفئة الرابعة : وهم الذين لم يرتبطوا بإي شيء مما ذُّكر سابقاً سواء من
الشباب أو الفتيات .
هكذا هم في الجملة
وهذا يُظهر التباين بينهم والتفاوت في أحوالهم , ولذا ينبغي لقارئ هذه
السطور أن يأخذ ما يناسبه ويدع ما لايناسبه .
يبدأ اليوم الإسلامي مع أذان الفجر , ولكني سأبدأ بوقت عزيز شريف , عظّمه
الله وأعلى مكانته - وهو وقت السحر -
هذا الوقت العظيم المبارك , كم يفرط فيه كثير من المسلمين مع أنه وقت
العطايا والهبات .
تأمل فيما جاء في هذا الوقت من فضائل , وماحاز من خيرات , جاء في الحديث
الصحيح , يقول عليه الصلاة والسلام : " إذا مضى
نصف الليل أو ثلث الليل نزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا فقال : لا أسأل عن
عبادي غيري من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ،
من ذا الذي يسألني فأعطيه ، حتى ينفجر الصبح " مختصر الصواعق
المرسلة , واسناده صحيح
تأمل بالله عليك في هذه الرحمة وفي
قوله سبحانه
-
لا أسأل عن عبادي غيري ...-
هذا الوقت العبادة فيه أرفع , والدعاء فيه أسمع , واللذة فيه أمتع , ففي
حديث عمرو بن عبسة قال : قلت يا رسول الله ، أي
الليل أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر ، فصل ما شئت ، فإن الصلاة مشهودة
مكتوبة "
سنن أبي داود
وفي حديث عبدالله بن عمر قال : نادى رجل رسول
الله صلى الله عليه وسلم أي الليل أجوب دعوة ؟ قال جوف الليل الآخر
" مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح
ولقد حث نبينا عليه الصلاة والسلام أمته على اغتنام هذه الأوقات فقال عليه
الصلاة والسلام : أقرب ما يكون الرب من العبد
في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن
"
سنن الترمذي
وهذا عام في ليالي العام , وفي ليالي رمضان أعظم .
اغتنم هذا الوقت أيها المسلم , ولا تفرط فيه أبداً , خصوصاً أن كثيراً من
المسلمين يكونون مستيقظين هذه الساعات .
فإذا ما أذّن الفجر , وقد أنزلت حاجتك في جناب ربك , فكن أول الداخلين
للمسجد , تتلو كتاب ربك , وتدعوه وتسأله , وتظفر بأجر الماكث في المسجد ,
الفائز بدعاء ملائكة الرحمن .
صلِ الفجر بقلب خاشع وفؤاد حاضر , سبّح بتعظيم , ادع برغبة وعزيمة , صل على
نبيك بأدب , واسأل ربك قبول العمل .
فإذا مانتهيت من صلاتك احرص على جلسة الإشراق ففي فضلها جاءت الآثار , وهي
سنة نبيك المختار,
فقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم : إذا صلى الفجر ، تربع في مجلسه ، حتى تطلع الشمس حسناء"
سنن أبي داود
وقال عليه الصلاة والسلام : "
من صلى الفجر في جماعة ،
ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين ، كانت له أجر حجة و عمرة
تامة ، تامة ، تامة "
صحيح الجامع
كم يحصل للمؤمن والمؤمنة من خير حال جلوسهم هذه الجلسة ,
فهم بين تلاوة وذكر واستغفار ودعاء وثناء , وفي رمضان يعظم الأجر
والثواب .
احرص إن صليت بعد شروق الشمس أن تُكثر من الركعات فإنك لن تسجد لله سجدة
إلا رفعك الله بها درجة , لنتعود على كثرة صلاة النافلة وليكن رمضان سبيلا
لها .
كان الإمام أحمد - رحمه الله - يصلي في اليوم ثلاث مئة ركعة .
فهذا كان حالهم , وذلك كان حبهم للصلاة .
فليت شعري ما الذي وجدوه فيها ولم نجده ؟
وما الذي جعلهم يقفون الوقوف الطويل , ويركعون الركعات الكثيرة , ونحن نعجز
عن ركعتين , وإن فعلنا مننّا بها على ربنا ؟
استرح بعد صلاتك هذه , حتى إذا ما قرُب الظهر فقم وتنفل واستعد لصلاة الظهر
, وكن أول الداخلين للمسجد , فإن عجزت فلا أقل من لاتفوت الأربع ركعات قبل
الظهر ثم تصلي فرضك بقلب حاضر .
اجلس قليلا في مسجدك مصلياً وتالياً , ثم اجعل بقية وقتك هذا لمعيشتك
وقضاء حوائج الأهل .
فإذا أذن العصر فتعوّد أن تتقدم للصلاة وصل قبله أربعا تفز برحمة ربك , ففي
الحديث يقول عليه الصلاة والسلام : " رحم الله
امراً صلى قبل العصر اربعا " صحيح الجامع
وفي الحديث الآخر : " من صلى قبل العصر اربعاً
حرمه الله على النار " صحيح الجامع .
ثم امض جل وقتك في التلاوة والذكر , غير ناسياً مراعاة أهل بيتك وولدك ,
معيناً لهم على الطاعة قاضياً حاجتهم , ومشاركاً في أعمال والخير .
حتى إذا ما أقبلت ساعة الغروب تألمت لانقضاء يوم من أيام هذا الشهر المبارك
, وانقضاء يوم من أيام الله الفاضلة , وأنا على يقين بتحسر أصحاب القلوب
المستنيرة على فوات كل ساعة من ساعات شهرهم , وودوا أن لوطال حتى يزدادوا
قرباً من ربهم .
لقد آذنت شمس هذا اليوم بالغروب , وبين يديك ساعة مباركة قد جعل الله لك
فيها دعوات مستجابة , جاء في الحديث الصحيح :
" وللصائم عند فطره دعوة لاتُرد " لقد علم
الكريم سبحانه باشتداد جوع الصائم وعطشه , وكيف يكون اضطراره لرحمة الله
تعالى فوهبه عطاءً من عنده , وجعل له دعوة مستجابة .
تفرغ أيها المؤمن هذه الساعة
تفرغي يا أمة الله هذه الساعة
لنتفرغ جميعاً للدعاء
لنتفرغ جميعاً لإظهار الذل والفقر والحاجة لمولانا .
كم لنا من حاجات , وكم بين أيدينا من رغبات , لنطرحها هذه الساعة - فالدعوة
هنا لاتُرد - .
يحزن المرء كثيراً وهو يرى عامة الناس هذه الساعة في سوقهم , ويألم وهو
يعلم عن حال كثير من الأخوات وقد انشغلن هذه الساعة بإعداد سفر طعامهم .
لنرتب جدولنا بحيث نكون هذا الوقت متفرغين فيه للدعاء , لنعوّد أبنائنا
وندربهم على أن يتعلموا رفع أيديهم هذه اللحظات , جميل أن ترى أهل البيت كل
واحد منهم قد أخذ جانباً يدعو ربه ويسأل مولاه .
إن الرحمات تكُثر هذه الساعة , وإن العطايا تعظُم هذه اللحظة فلنغتنمها
بخير حال .
بين المغرب والعشاء اجعله لمؤانسة الأهل والأبناء , ادخل عليهم السرور ,
لاطفهم ومازحهم , ذكرهم أحيانا بفضائل الصوم ومزايا الشهر الكريم , ان
استطعت أن تجعل وقتاً - وليكن يسيراً من غير تطويل - لقراءة تفسير بعض
الأيات , وسير الصالحين في رمضان فافعل , فإن لهذا أثر عظيم عليهم .
فإذا أُذن لصلاة العشاء لتكن أول المتقدمين , وكن على يقين أنك كلما تقدمت
كان هذا التقدم سبباً لحضور الخشوع في قلبك , وحصولك على اللذة في الصلاة .
إن صلاة التراويح رحمة من الله فهي سببٌ لمغفرة الذنوب والخطايا , ففي
الحديث : " ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر
له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام " من قام رمضان
" فدل هذا على أنه ينبغي قيام الشهر كله .
وتأمل قوله " إيماناً واحتساباً " لتراقب
نيتك , ولتعلم أن الله شرع هذه العبادة , وأنك تفعلها طلباً للثواب , وليس
تقليداً وطلباً للمحمدة من الناس , بل إنك ترجو بها ماعند الله من الخير ,
وما أعده الله للطائعين المخبتين .
أما بعد العشاء فاجعله للصلة والبر والإحسان .
صل قرابتك , وزر جيرانك , شارك في أعمال البر , آنس أهلك و اقض حاجتهم ,
واحتسب في ذلك كله فأنت في شهر تُضاعف فيه الحسنات .
وقفة مع وسائل الإعلام
اعلم أن الصوارف عن فعل الخير كثيرة , وقطّاع الطريق للعبد عن الله والدار
والآخرة لايُحصون - من شيطان يغوي , ونفس أمّارة بالسوء تُزين , وصاحب
للسوء يثبط - ولكن من نظر في حال وسائل الإعلام اليوم خصوصاً في شهر رمضان
, علم أنها من أشر الأعداء , وأعظم الصوارف عن الطاعة , بما زُين لأصحابها
الباطل , وبما لبس عليهم الشيطان من أنهم يخدمون المجتمع وينفعون الناس ,
ولكنهم صاروا من الفاسدين المفسدين , فأي خير يدّعيه هؤلاء وقد جلبوا للناس
النساء وهن بكامل زينتهن ليًغروا ضعاف الإيمان !
وأي رسالة لهم وأصوات المعازف وصور الخلاعة تًعرض على المشاهدين !
احذر أيها الناصح لنفسك , احذري يامن تريدين سعادة الدارين من هذه الوسائل
فإن أصحابها دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها .
إن الوقت في رمضان أكرم من أن يضيع سدى , فضلاً عن أن يكون سبباً للبعد عن
الله , وحرمان الأجر والثواب .
مصيبة أن يخرج رمضان ولم يزدد العبد من ربه قُربا , ولم يعمر وقته في
الطاعة , ويُمضي زمانه في الخير .
مصيبة أن يكون رمضان سبباً لبعض الناس لأن يكونوا من حطب جهنم بمعاصيهم
وانتهاكهم للحرمات .
فاغتنم موسمك , وكن ناصحاً لنفسك , وتذكر عظيم هذه الأيام , وفضل تلك
الساعات , واسأل ربك الهداية , وليكن رمضان نقطة الإنطلاق إلى الله والدار
الآخرة .
وفقنا الله جميعاً للخير , وصرف عنا الشر , وجعلنا من أهل جنته , وجمعنا
بها آمنين .